فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

سورة العلق:
تسع عشرة آية.
مكية.
زعم المفسرون أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن.
وقال آخرون الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق.
{اقرأ باسم رَبّكَ}
اعلم أن في الباء من قوله: {باسم رَبّكَ} قولين:
أحدهما: قال أبو عبيدة: الباء زائدة، والمعنى: اقرأ اسم ربك، كما قال الأخطل:
هن الحرائر لا ربات أخمرة ** سود المحاجر لا يقرأن بالسور

ومعنى اقرأ اسم ربك، أي أذكر اسمه، وهذا القول ضعيف لوجوه:
أحدها: أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول: ما أنا بقارئ، أي لا أذكر اسم ربي.
وثانيها: أن هذا الأمر لا يليق بالرسول، لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله، فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولاً به أبداً.
وثالثها: أن فيه تضييع الباء من غير فائدة.
القول.
الثاني: أن المراد من قوله: {اقرأ} أي اقرأ القرآن، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى: {فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ} [القيامة: 18] وقال: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقرأهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106] وقوله: {باسم رَبّكَ} يحتمل وجوهاً أحدها: أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير: اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل: باسم الله ثم اقرأ، وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به، وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجباً ولا يبتدئ بها.
وثانيها: أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا، نظيره كتبت بالقلم، وتحقيقه أنه لما قال له: {اقرأ} فقال له: لست بقارئ، فقال: {اقرأ باسم رَبّكَ} أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك.
وثالثها: أن قوله: {اقرأ باسم رَبّكَ} أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول: بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله، فإن العبادة إذا صارت لله تعالى، فكيف يجترئ الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى؟.
فإن قيل: كيف يستمر هذا التأويل في قولك: قبل الأكل بسم الله، وكذا قبل كل فعل مباح؟.
قلنا: فيه وجهان.
أحدهما: أن ذلك إضافة مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة، كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك، فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام.
والثاني: أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه.
أما قوله: {رَبَّكَ} ففيه سؤالان:
أحدها:
وهو أن الرب من صفات الفعل، والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل، ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب، ثم إنه تعالى قال ههنا: {باسم رَبّكَ} ولم يقل: اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة: بسم الله الرحمن الرحيم وجوابه: أنه أمر بالعبادة، وبصفات الذات، وهو لا يستوجب شيئاً، وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة، ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع، فقال: هو الذي رباك فكيف يفزعك؟ فأفاد هذا الحرف معنيين.
أحدهما: ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل.
والثاني: أن الشروع ملزم للاتمام، وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك، أي حين كنت علقاً لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقاً نفيساً موحداً عارفاً بي كيف أضيعك؟.
السؤال الثاني:
ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه، فقال: {باسم رَبّكَ}؟
الجواب: تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا، وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية، أسرى بعبده، نظيره قوله عليه السلام: «على مني وأنا منه» كأنه تعالى يقول: هو لي وأنا له، يقرره قوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] أو نقول: إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه، إذ قد علم في الشاهد أن من له إبنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر، يقول: هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة، فيقول الرب تعالى: المنفعة تصل مني إليك، ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن، فأقول: أنا لك ولا أقول أنت لي، ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت: أنزل على عبده {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ} [الزمر: 53].
السؤال الثالث:
لم ذكر عقيب قوله: {رَبَّكَ} قوله: {الذى خلق}؟
الجواب: كأن العبد يقول: ما الدليل على أنك ربي؟ فيقول: لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوماً.
ثم صرت موجوداً فلابد لك في ذاتك وصفاتك من خالق، وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي.
{خلق الإنسان مِنْ علق (2)}
أما قوله تعالى: {الذى خلق خلق الإنسان مِنْ علق} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون قوله: {الذى خلق} لا يقدر له مفعول، ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه.
والثاني: أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي، كقولنا: الله أكبر، أي من كل شيء، ثم قوله بعد ذلك: {خلق الإنسان مِنْ علق} تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض والثالث: أن يكون قوله: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خلق} مبهماً ثم فسره بقوله: {خلق الإنسان مِنْ علق} تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته.
المسألة الثانية:
احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى، قالوا: لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات، وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، قالوا: وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن فرعون لما طلب حقيقة الإله، فقال: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] قال موسى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] والربوبية إشارة إلى الخالقية التي ذكرها ههنا، وكل ذلك يدل على قولنا.
المسألة الثالثة:
اتفق المتكلمون على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى، أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم، ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين، لو قال له: اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له، لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى إن زفر لما بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه، فلما ذكر أبو حنيفة زيفوه ولم يلتفتوا إليه، فرجع إلى أبي حنيفة.
وأخبره بذلك، فقال إنك لم تعرف طريق التبليغ، لكن ارجع إليهم، واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها، ثم قل بعد ذلك: هاهنا قول آخر، واذكر قولي وحجتي، فإذا تمكن ذلك في قلبهم، فقل: هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون، فكذا هاهنا أن الحق سبحانه يقول: إن هؤلاء عباد الأوثان، فلو أثنيت على وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك، لكن اذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره، ثم قل: ولابد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان، كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خلقهُمْ لَيَقولنَّ الله} [الزخرف: 87] ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلهاً، فلهذا قال تعالى: {أَفَمَن يَخلق كَمَن لاَّ يَخلق} [النحل: 17] ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل، لأن المؤثر فيه إن كان حادثاً افتقر إلى مؤثر آخر، وإن كان قديماً فإما أن يكون موجباً أو قادراً، فإن كان موجباً لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة.
المسألة الرابعة:
إنما قال: {مِنْ علق} على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2].
أما قوله تعالى: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم (3) الَّذِي عَلَّمَ بالقلم (4)} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال بعضهم: اقرأ أولاً لنفسك، والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم أو اقرأ في صلاتك، والثاني خارج صلاتك.
المسألة الثانية:
الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم، ومن أعطى ثم طلب عوضاً فهو ليس بكريم، وليس يجب أن يكون العوض عيناً بل المدح والثواب والتخلص عن المذمة كله عوض، ولهذا قال أصحابنا: إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلاً لغرض لأنه لو فعل فعلاً لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله، فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية، ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية، فيكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره وذلك محال، ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوهاً أحدها: أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية، لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية، وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية، ومنه قول القائل:
متى زدت تقصيراً تزد لي تفضلاً ** كأني بالتقصير أستوجب الفضلا

وثانيها: إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعاً إما مدحاً أو ثواباً أو يدفع ضرراً.
أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم.
وثالثها: أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ورابعها: يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشراً أو حثاً على الإخلاص، أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكليف الشاق ثم لا أنصرك.
المسألة الثالثة:
أنه سبحانه وصف نفسه بأنه: {خلق الإنسان من علق} وثانياً بأنه علقة وهي بالقلم، ولا مناسبة في الظاهر بين الأمرين، لكن التحقيق أن أول أحوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالماً بحقائق الأشياء، وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول: انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلابد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة، ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات الإنسانية، كأنه تعالى يقول: الإيجاد والإحياء والإقدار والرزق كرم وربوبية، أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف.
المسألة الرابعة:
قوله: {باسم رَبّكَ الذي خلق خلق الإنسان مِنْ علق} إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة، وقوله: {الذى عَلَّمَّ بالقلم} إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية والثاني إلى النبوة، وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية.
المسألة الخامسة:
في قوله: {عَلَّمَ بالقلم} وجهان.
أحدهما: أن المراد من القلم الكتابة التي تعرف بها الأمور الغائبة، وجعل القلم كناية عنها.
والثاني: أن المراد علم الإنسان الكتاب بالقلم وكلا القولين متقارب، إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة، يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام، فقال: ريح لا يبقى، قال: فما قيده، قال: الكتابة، فالقلم صياد يصيد العلوم يبكي ويضحك، بركوعه تسجد الأنام، وبحركته تبقى العلوم على مر الليالي والأيام، نظيره قول زكريا: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} [مريم: 3] أخفى وأسمع فكذا القلم لا ينطق ثم يسمع الشرق والغرب، فسبحانه من قادر بسوادها جعل الدين منوراً، كما أنه جعلك بالسواد مبصراً، فالقلم قوام الإنسان والإنسان قوام العين، ولا تقل القلم نائب اللسان، فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم، التراب طهور، ولو إلى عشر حجج، والقلم بدل (عن اللسان) ولو (بعث) إلى المشرق والمغرب.
أما قوله تعالى: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم (5)}
فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك ولم يذكر واو النسق، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول: أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحدًا ويكون المعنى: علم الإنسان بالقلم مالم يعلمه، فيكون قوله: {عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يعلم} بياناً لقوله: {عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 4]. اهـ.